أحبّوا ذوي الاحتياجات الخاصّة وتقبّلوهم وحقّقوا أحلامهم

بقلم: أ.د. عبد الرزاق عبد الجليل العيسى

تهتمّ الشّعوب المتقدّمة بثرواتها البشريّة عناية كبيرة، لاسيما اهتمامهم بالأطفال منذ ولادتهم وترى أنّ من الممكن استثمار إمكانيّات حتى الشّخص المعاق فيهم والاستفادة إلى أقصى حدّ ممكن من طاقاته ليصبح إنساناً معطاءً في مجتمعه، ويشعر بالثّقة والأمان

ولاشكّ أنّ الإعاقة العقليّة هي مشكلة متعدّدة الجوانب والأبعاد،وأبعادها طبيّة ونفسيّة وتأهيليّة ومهنيّة،وهذه الأبعاد يتداخل بعضها في بعض،لذا يجب التّعاون بين أجهزة مختلفة لحلّ هذه المشكلة؛فالإعاقة العقليّة هي حالة من الضّعف في الأداء الوظيفيّ،وقصوّر في اثنين أو أكثر من مجالات المهارات التّكليفيّة التّالية:التّواصل أو العناية الشّخصيّة أو الحياة المنزليّة أو المهارات الاجتماعيّة أو الاستفادة من مصادر المجتمع والتّوجيه الذّاتي أو السّلامة أو الجوانب الأكاديميّة والوظيفيّة،وهذه تظهر قبل سِنّ الثّامنة عشر

وهناك نسب مختلفة من ذوي الاحتياجات الخاصّة في مجتمعات العالم قاطبة؛إذ تُشير إحصائيّات منظّمة الصّحة العالميّة إلى أنّ نسبة المعاقين عقليّاً في أيّ مجتمع تتراوح بين 1-3%،وأنّ هذه النّسبة تتأثّر بالحدود الاجتماعيّة والطّبقة الاقتصاديّة والثّقافيّة،وتختلف نسبة الإعاقة العقليّة من مجتمع إلى آخر تبعاً لعدّة متغيّرات في المجتمع مثل درجة الإعاقة وتعريفها وجنس الشّخص المعاق وعمره،وهذه المتغيّرات تتأثّر باختلاف برامج الوقاية المتّبعة في المجتمع.وقد تتغيّر النّسب من مجتمع إلى آخر،فقد تزداد بانخفاض المستوى الاقتصادي والثّقافيّ،إذ خلصت دراسة أًجريت في مصر إلى أنّ نسبة الاعاقة في الأحياء الرّاقية التي تتمتّع بمستوى معيشيّ فوق المتوسّط تقع بين 3-3و3%،وبينما وصلت إلى 7% في بعض الأحياء الفقيرة ذات الكثافة السّكانيّة العالية ذات الخدمات الصّحيّة والثّقافيّة والتّربويّة المتدينة

ويمكن تقسيم عوامل الإعاقة إلى ثلاثة أقسام رئيسيّة على أساس المراحل التي تحدث فيها الإعاقة العقليّة، وهي كما يلي

اولا: عوامل ما قبل الولادة، وهي العوامل التي تؤثّر في الطّفل أثناء فترة الحمل بها

ثانيا: عوامل أثناء الولادة، وهي العوامل التي تؤثّر على الطّفل خلال عملية الولادة

 ثالثا: عوامل ما بعد الولادة، وهي العوامل التي تؤثّر على الطّفل بعد الميلاد وفي سنوات عمره المبكّرة

ولا أريد أن أتحدّث عن عوامل الإعاقة التي تحدث خلال اجراءات الولادة لأنّها عوامل فنيّة،وتحدث أحياناً حتى في أحدث واحسن مراكز الولادة في العالم التي توظّف أفضل الأطباء،ونسبة هذه العوامل لا تتجاوز الواحد في الألف،ولكنّني معنيّ بالتّحدّث عن عوامل الإعاقة ما قبل الولادة التي تُعدّ من المشاكل التي ارتبطت مع الوضع العراقيّ منذ فترات الحروب والاعتقالات والإعدامات والتّهجير التي بدأت مع استلام صدّام حسين لحكم العراق في عام 1979،ومن ثمّ بدأ الحرب العراقيّة الإيرانيّة في عام 1980،واستمرّت سياسة عسكرة الدّولة،وأخيراً جاء احتلال الكويت عام 1990 الذي تزامن  مع حرمان العراقيين من عناصر العيش الأساسيّة مثل الغذاء والماء الصّالح للشّرب والدّواء وصولاً إلى المهزلة المتعمّدة التي فُرضت على الشّعب العراقيّ بما يُسمّى بالحصار الاقتصاديّ.وهذه العوامل جميعها سبّبت –للأسف- زيادة نسبة الإعاقة العقليّة العراقيّة قياساً لما هو مدرج عالميّاً في نسبة الإعاقة العقليّة في المجتمعات في دول العالم

والعوامل المسبّبة للإعاقة العقليّة ما قبل الولادة (فترة الحمل) تقسم إلى

اولا: عوامل جينيّة

ثانيا: عوامل غير جينيّة

والعوامل الجينيّة تُردّ إلى أسباب

أ- الوراثة

ب – خلل في الكروموسومات

العوامل الوراثيّة: وهي العوامل المسؤولة عما نسبته 80% من حالات الإعاقة العقليّة، وذلك لوجود تلف أو قصور أو خلل في خلايا المخّ أو الجهاز العصبيّ المركزيّ نتيجة لبعض العيوب الموروثة عن طريق الجينات التي يرثها الطّفل عن والديه.

الخلل في الكروموسومات: هو الخلل الذي يحدث عند انقسام الخليّة أو إحدى الانقسامات المبكّرة للبويضة الملقّحة الذي قد يُؤدّي إلى الخلل في الكروموسومات.

وأهمّ العوامل التي تؤثّر على الجنين في مرحلة ما قبل الولادة هي

1- الأشعّة التي تتعرّض لها الحامل

2- العقاقير التي تتناولها الحامل

3- الأمراض المزمنة التي تتعرّض لها الحامل

4- سوء تغذية الحامل

5- التّلوث البيئيّ للماء والهواء والغذاء وكل ما هو في محيط الحامل

6- تعرّض الحامل للحوادث والإيذاء الجسديّ أو النّفسيّ خلال الأشهر الأولى من الحمل

أمّا العوامل المسبّبة لإعاقة الأطفال المولودين بشكل طبيعيّ فهي

اولا: تعرّض الطّفل لحادث يؤذي دماغه أو يؤذي جهازه العصبيّ في مرحلة الرّضاعة أو الطّفولة المبكّرة، أو تعرّضه لبعض الأمراض مثل مرض اليرقان

ثانيا : سوء التّغذية، ومن أسبابها الحرمان والفقر والعادات السّيئة في التّغذية

ثالثا: الحوادث والصّدمات التي تؤدّي إلى إصابة دماغ الطّفل أو جهازه العصبيّ، مثل حوادث السّيارات أو الارتطام بجسم صلب أو تعرّضه لتجارب مأساويّة أو لصدمات نفسيّة نتيجة مشاهدته لحالات قتل أوتفجير أوتعذيب في أيّ مرحلة عمريّة من عمره، أو رؤيته للأشلاء والجثث نتيجة انفجار او اغتيال، أو فقدانه لأحد ذويه، أو تعرّضه للتّعذيب الجسديّ أو النّفسيّ أو لكليهما

رابعا: مبيدات الآفات وأبخرة بعض المواد الكيمياويّة مثل مركّبات الكبريت ومركّبات الزّئبق التي ينتج عنها التّسمّم، وربّما قد تؤدّي إلى الموت

  إنّ الإعاقة ليست ذنب من يُصابون بها، وهم في واقع الحال كثيرون في مجتمعنا العراقي وليس لدينا احصائيات عنهم، ولهم مشاعر إنسانيّة مرهفة ولذلك من واجبنا التّعامل معهم بما يتناسب مع إنسانيتهم وكرامتهم البشريّة، كما علينا أن نرفع قدراتهم المهنيّة والعقليّة وتنمية ملكاتهم وطاقاتهم وقابلياتهم التي من الممكن الارتقاء بها عبر عمليّة تأهيليّة وتنمويّة.

ومن العوامل المهمّة المعتمدة في الدّول المتقدّمة لتأهيل ذوي الإعاقات المتوسّطة هي دمجهم مع فئات المجتمع وذلك ابتداءً من الطّفولة حيث يتمّ دمجهم مع أقرانهم في رياض الأطفال والمدارس انطلاقاً من ضرورة إقناع المجتمع بأحقيّة ذوي الاحتياجات الخاصّة بالتّعليم على أن تكون وزارة التّربية  قد اتّخذت قراراتها الصّارمة والأكيدة في جعل أحقّية تعليم ذوي الاحتياجات الخاصّة على رأس أولويّاتها الثّابتة.وعند عدم تثبيت هذا الحقّ في صدارة أولويّات وزارة التّربية  علينا أن نجيب على السّؤال اللاهث الملحّ،وهو:أين يقضي ذوي الاحتياجات الخاصّة من الأطفال ممّن هم في سنّ المدرسة أوقاتهم؟ هل نتركهم يهيمون في الشّوارع أم نبقيهم سجيني البيوت لا يُسمح لهم بمغادرتها بجريمة أنّهم من ذوي الاحتياجات الخاصّة؟!

سأجيب على هذا السّؤال المّهم عبر تجربتي الشّخصيّة،وهي تجربة مريرة ولكنّها مشرّفة؛إذ نصحني الكثير من النّاس القساة أنّ أسجن طفلتي الصّغيرة ديمة في البيت بجريمة ولادتها مصابة بإعاقة متلازمة داون،ولكنّني رفضتُ ذلك بإصرار،نعم لقد رزقني الله عزّ وجل في عام 1992 بطفلة مصابة بمتلازمة داون،اسميتها ديمة،وقد عملتُ المستحيل من أجل أن أدخلها في رياض الأطفال ومن ثم لألحقها في الدّراسة الابتدائيّة والمتوسّطة،وقد نجحتُ في ذلك،كما نجحتْ ابنتي ديمة في رهان الدّراسة والنّجاح فيها،وقد تكلّلت رحلة نجاحها وكفاحها في الدّراسة على الرّغم من إصابتها بمرض متلازمة داون بأن حصلتْ على معدل 67% في الامتحانات الوزاريّة في مرحلة المتوسطة،ومن ثم حصلتْ على معدّل 63% في الدّراسة الإعداديّة. وكانت زوجتي قد ضحّت بعملها في مهنة الطّب لأجل أن تتفرّغ لعلميّة تأهيل ديمة وتعليمها، وهي عمليّة قد رسمنا ملامحها المستقبليّة عبر خطوات مدروسة لذلك. ولكن يبقى السّؤال قائماً، وهو: هل تعليم الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة هو مسؤولية حصريّة لعائلاتهم؟ 

وبفضل الله عزّ وجلّ تمّ إنشاء مدرسة صديقة ومؤّهلة للطلبة من ذوي الاحتياجات الخاصّة في مدينة النّجف الأشرف،لقد أسّست هذه المدرسة بتمويل ذاتي منّي بالإضافة لدعم من طبيبة لامراض القلب مقيمة في بريطانيا ووالدها ألاكاديميّ الوطنيّ وباقي افراد عائلتهم،إذ إنّ هذه المدرسة لم تحصل على أيّ دعم حكوميّ،وقد ضمّت هذه المدرسة ما يقارب المئة طفل وطفلة.ولكن يبقى السّؤال قائماً،وهو:أين يذهب باقي أطفال العراق من ذوي الإعاقات التي أُصيبوا بها بسبب السّياسات الجائرة والحكومات الظّالمة إبّان الحكم البائد واستمراريته بالاعمال الارهابية الحالية؟!

لذا يجب أن يكون هناك دور للمجتمع في دعم حقّ الطّلبة ذوي الاحتياجات الخاصّة في التّعليم، وتحقيق دمجهم الكامل في المجتمع على اعتبار أنّهم أفراد عاملون وفاعلون في التّنمية المجتمعيّة، كما يجب أن يشكّل أفراد المجتمع قوة ضاغطة على الحكومات لأجل أن يكون لها دور فعّال في تعليم ذوي الاحتياجات الخاصّة وتأهيلهم والإيفاء بحقوقهم كاملة وفق ما تكفله القوانين الدّوليّة والعالميّة التي تنصّ على حقّ الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصّة في التّعليم دون تميز على أساس تكافؤ الفرص.

إنّ تجربتي الشّخصيّة في تعليم ابنتي ديمة وتأهيلها فضلاً عن تجارب الكثيرين غيري تؤكّد بالدّليل القاطع ما توصّلت إليه الدّول المتقدّمة من حقيقة أنّ عدم دمج الطّلبة من ذوي الاحتياجات الخاصّة في المدارس أمر لا يتعلّق أبداً بعدم قدرة هؤلاء الطّلبة على الالتحاق بالمدارس،بل هو أمر يتعلّق بتخلّف نظرة المجتمع وعنصريّته ضدّ هؤلاء الطّلبة،إذ ثبت بالدّليل القاطع أنّ هؤلاء الطّلبة من ذوي الاحتياجات الخاصّة يستطيعون الحصول على درجات مشرّفة،بل ويستطيعون التّفوّق أحياناً على أقرانهم الطّبيعيين،وبعض هؤلاء الطّلبة من ذوي الاحتياجات الخاصّة استطاعوا الولوج إلى الدّراسات العليا في أعرق الجامعات في العالم.

لذا آمل من وزارة التّربية  العراقيّة أن تتبنّى منهج التّعليم الشّموليّ الذي يعتمد بشكل أساسي على دمج الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصّة في المجتمع دون إقصائهم عن المجتمع وعن التّعليم،لما في ذلك من أثر إيجابيّ في تعزيز قدرات الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة،وتغيير المفهوم الخاطئ عنهم،وإيجاد مفهوم إيجابي جديد يقوم على تقبّل الأطفال الطّبيعيين لاختلاف أقرانهم الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة مع تقديم الدّعم الإضافي لهم على انفراد وفق احتياجات كلّ فرد منهم بما يتلاءم مع حاجاتهم الفرديّة الخاصّة كي يصبحوا أعضاء فاعلين ومنتجين في الدّولة.

وإذا عدنا إلى تاريخ بعض الدّول فإنّنا نجد أن الكثير من الإنجازات المهمّة قد تحقّقت فيها على أيدي أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصّة، أمثال توماس أديسون مخترع المصباح الكهربائيّ الذي قال عنه أستاذه أنّه تلميذ غبي لا يصلح للدّراسة بسبب صفات التّوحد والانطواء والتأخّر اللفظيّ التي كانت تظهر عليه، ولكنّه فيما بعد غدا أهم مخترعي العالم الذي أضاءه عبر اختراعه للمصباح الكهربائيّ.

كذلك نجد بيتهوفن أبا السيمفونيات الخالدة يتحدّى أستاذه، ويصبح أهمّ موسيقار في التّاريخ البشريّ بعد أن قال عنه أستاذه إنّه لا يصلح أبداً للعزف والموسيقى، وقد تحدّى صممه وألّف أجمل المقطوعات الموسيقيّة وعزفها دون أن يسمعها بسبب إصابته بالصّمم!

وهذه الأمثلة المشرّفة وغيرها من الأمثلة تقودنا جميعاً إلى التّسليم بأنّ التعليم الدّامج هو أحد أهمّ عوامل استثمار طاقات الأطفال والشّباب من ذوي الاحتياجات الخاصّة، وهو خطوة أولى لدمجهم بالمجتمع وصولاً إلى تقبّلهم على خير وجه ليكونوا بذلك نواة لتقبّل أحدنا للأخر في عراق المستقبل.